يد استقلال المغرب 18 نونبر، يستعرض جذور المقاومة، مسار التحرير، رمزية الحدث، ودلالاته التربوية والوطنية للأجيال الجديدة.عيد الاستقلال 18 نونبر

عيد استقلال المغرب: ذاكرة وطن وبناء مستقبل

الوطن ذاكرة لا تُمحى

يظل عيد الاستقلال المغربي في 18 نونبر محطة خالدة في الذاكرة الوطنية، ورمزاً للفخر والعزة والسيادة.
هو اليوم الذي استعاد فيه المغرب حريته بعد عقود من الاستعمار، وأعلن ميلاد دولة حديثة بعرشها وشعبها.
إنه عيد لا يقتصر على استحضار الماضي، بل يذكّر الأجيال بأن الحرية ثمرة تضحيات جسيمة، وأن الحفاظ عليها مسؤولية متجددة.

في هذا اليوم، يتجدد العهد بين العرش والشعب، بين من صان الأمانة ومن يواصل البناء.
إنها مناسبة تُعيد للمغاربة إحساسهم العميق بالانتماء، وتجعلهم يتأملون في مسار وطنهم من الكفاح إلى التنمية، ومن المقاومة إلى الريادة.


أولاً: جذور الحماية وبداية المقاومة

عرف المغرب، منذ أواخر القرن التاسع عشر، ضغوطاً استعمارية متزايدة بسبب موقعه الجغرافي الاستراتيجي وثرواته الطبيعية.
ورغم محاولات الإصلاح التي قادها السلاطين، خصوصاً المولى الحسن الأول والمولى عبد العزيز، إلا أن الأطماع الأوروبية تزايدت حتى فُرضت معاهدة الحماية سنة 1912 التي قسمت المغرب إلى منطقتين:

  • منطقة خاضعة للنفوذ الفرنسي في الوسط.
  • ومنطقة شمالية وجنوبية خاضعة للإسبان.

لكن المغاربة لم يقبلوا بهذا الوضع.
فمنذ الأيام الأولى، اندلعت المقاومة المسلحة في جبال الأطلس والريف، بقيادة شخصيات بارزة مثل:

  • الشيخ ماء العينين في الجنوب،
  • الهاشمي البوشواري وعبد الكريم الخطابي في الريف، الذي قاد جمهورية الريف بين 1921 و1926 كأول تجربة استقلالية حديثة في شمال إفريقيا.

ثانياً: الحركة الوطنية وبروز المطالبة بالاستقلال

مع مرور الزمن، تطورت المقاومة من العمل المسلح إلى النضال السياسي والفكري، فظهرت الحركة الوطنية التي قادها مثقفون وعلماء ووطنيون، من أمثال:
علال الفاسي، أحمد بلافريج، عبد الرحيم بوعبيد، محمد بن الحسن الوزاني، عبد القادر بن جلون، عبد الله إبراهيم وغيرهم.

بدأت هذه الحركة بإصلاحات تدريجية، ثم توجت بحدث مفصلي يوم 11 يناير 1944، عندما قُدّمت وثيقة المطالبة بالاستقلال إلى سلطات الحماية، بإمضاء 66 شخصية وطنية، مطالبةً باستقلال المغرب تحت قيادة السلطان محمد الخامس.

لم تكن الوثيقة مجرد مطلب سياسي، بل كانت تعبيراً عن وعي وطني عميق جمع بين العرش والشعب، وبين الدين والسياسة، وبين الماضي والمستقبل.


ثالثاً: محمد الخامس، رمز الوحدة والمقاومة

يُعتبر الملك محمد الخامس (رحمه الله) حجر الأساس في معركة التحرير المغربية.
فقد رفض بشجاعة كل محاولات المستعمر لفصل العرش عن الشعب، ووقف إلى جانب الحركة الوطنية، معلناً في خطبه:

«إننا نطالب بحقنا في الحرية كما يطالب كل شعب بحقه في الحياة الكريمة».

هذا الموقف الشجاع أدى إلى نفيه وعائلته إلى كورسيكا ثم مدغشقر سنة 1953، وهو الحدث الذي فجّر مقاومة غير مسبوقة في المدن والقرى، تجلت في انتفاضات الدار البيضاء ومراكش وطنجة والرباط وفاس.

أصبح اسم محمد الخامس رمزاً للمقاومة، وصارت صوره وأناشيده سرّاً يتناقله الناس، إلى أن أجبرت المقاومة المسلحة والضغط الشعبي المستعمر على التراجع.


رابعاً: العودة المظفرة وإعلان استقلال المغرب (1955–1956)

في 16 نونبر 1955 عاد السلطان محمد الخامس من المنفى، في مشهد مؤثر استقبله فيه الشعب المغربي بملايينه، واعتبر ذلك اليوم بداية النصر.
وفي خطابه الشهير قال:

«لقد عدنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر، جهاد البناء والنهوض بالأمة».

بعد مفاوضات طويلة مع فرنسا وإسبانيا، تم الإعلان الرسمي عن استقلال المغرب سنة 1956، واسترجاع السيادة الوطنية على أغلب التراب المغربي، مع بقاء بعض المناطق تحت الاحتلال إلى مراحل لاحقة.


خامساً: استكمال الوحدة الترابية بعد الاستقلال

لم يكن الاستقلال الكامل منجزاً في سنة 1956 فقط، بل امتدت معارك الوحدة إلى مراحل لاحقة:

  • 1956: استرجاع مدينة طنجة وإنهاء وضعها الدولي.
  • 1958: استرجاع منطقتي طرفاية وسيدي إفني.
  • 1969: استرجاع إقليم إفني.
  • 1975: تنظيم المسيرة الخضراء المظفرة لاسترجاع الصحراء المغربية، وهو الحدث الذي أعاد التلاحم الكامل بين العرش والشعب، وجعل الاستقلال يمتد في الزمان والمكان.

وهكذا تحقق شعار “الوحدة الترابية” ليكتمل معنى الاستقلال الشامل.


سادساً: بناء الدولة الحديثة

بعد مرحلة التحرير، بدأت المملكة المغربية بقيادة محمد الخامس ثم الحسن الثاني مشروعاً وطنياً كبيراً لتأسيس الدولة الحديثة.
وشمل ذلك:

  1. بناء المؤسسات الدستورية:
    • اعتماد أول دستور سنة 1962.
    • تأسيس البرلمان وتنظيم الحياة السياسية.
  2. تعميم التعليم ومحاربة الأمية:
    • إحداث المدارس الوطنية في مختلف الجهات.
    • إرسال بعثات إلى الخارج لتكوين الأطر المغربية.
  3. تحديث الاقتصاد الوطني:
    • إنشاء البنوك والمؤسسات الوطنية.
    • بناء السدود والموانئ والمناطق الصناعية.
  4. تطوير البنية التحتية:
    • توسيع شبكة الطرق والسكك الحديدية.
    • إنشاء المستشفيات والمراكز الاجتماعية.
  5. الاهتمام بالثقافة والهوية:
    • الحفاظ على اللغة العربية والهوية الإسلامية.
    • دعم الفنون والتراث الشعبي المغربي.

لقد كان الاستقلال بداية لمسيرة جديدة شعارها “العمل والبناء”، واستمراراً للنضال من أجل تحقيق الكرامة والتنمية.


سابعاً: الاستقلال في عهد الملك محمد السادس

منذ توليه العرش سنة 1999، أعطى الملك محمد السادس نفساً جديداً لمعنى الاستقلال، إذ ربط بين السيادة الوطنية والتنمية المستدامة.
وفي خطبه المتعددة، شدد على أن

“الوطنية الحقة لا تقتصر على الافتخار بالماضي، بل على الإسهام في بناء المستقبل”.

وتجلى ذلك في مشاريع كبرى:

  • ميناء طنجة المتوسط كرمز لانفتاح المغرب الاقتصادي.
  • مشروع القطار فائق السرعة (البراق).
  • التحول الرقمي والإصلاح القضائي والسياسي.
  • مشاريع التنمية في الصحراء المغربية تأكيداً لوحدة التراب الوطني.

هكذا أصبحت ذكرى الاستقلال اليوم تعني الاستمرار في التحرر من التخلف والبطالة والفقر، والتحرر من التبعية الفكرية والاقتصادية.


ثامناً: رمزية عيد الاستقلال في الوجدان المغربي

يختزل عيد الاستقلال معاني سامية وقيم خالدة، أبرزها:

  1. الوفاء للتاريخ:
    كل جيل يستحضر بطولات المقاومين ويترحم على أرواح الشهداء.
  2. الارتباط بالعرش:
    علاقة روحية وسياسية متينة بين القيادة والشعب، تتجدد في كل مناسبة وطنية.
  3. الوحدة الوطنية:
    عيد الاستقلال يوحد المغاربة من طنجة إلى الكويرة حول هدف واحد: صون الوطن.
  4. الاعتزاز بالهوية:
    يجسد الافتخار بالعروبة والإسلام والأمازيغية، وبالانتماء لإفريقيا والعالم الإسلامي.
  5. التربية على المواطنة:
    في المدارس، يُغنّى النشيد الوطني، وتُروى قصص المقاومة للأجيال الجديدة، لترسيخ روح الانتماء والمسؤولية.

تاسعاً: الاستقلال كمسؤولية تنموية وأخلاقية

الاستقلال لا يُقاس فقط بالحدود والسيادة، بل بمدى قدرة الوطن على ضمان الكرامة والعدالة لجميع أبنائه.
ولذلك، فإن التحدي اليوم هو استقلال الإرادة، واستقلال الفكر والإنتاج، وتحقيق العدالة الاجتماعية.

المواطن المستقل هو الذي يخدم وطنه بعمله وإخلاصه، والمعلم المستقل هو من يربي أجيالاً على حب الوطن، والطالب المستقل هو من يجعل علمه سلاحاً في وجه الجهل والتخلف.


عاشراً: دروس وعبر للأجيال الجديدة

  • أن الحرية لا تُهدى، بل تُنتزع بالتضحية.
  • أن الوحدة الوطنية كانت دائماً سر قوة المغرب.
  • أن العلاقة بين العرش والشعب ليست مجرد شعار، بل عقيدة وطنية.
  • أن الاستقلال الحقيقي يبدأ من داخل كل مواطن حين يؤدي واجبه بإخلاص.

خاتمة: “الاستقلال مسؤولية الأجيال”

بعد مرور ما يقارب سبعة عقود على استقلال المغرب، لا تزال الرسالة نفسها تتردد:
أن الحفاظ على الوطن أعظم من نيله.
إن الاستقلال ليس محطة ماضية، بل مسار متجدد يتطلب وعياً، واجتهاداً، وإصلاحاً.

فكما واجه الأجداد بنادق الاحتلال، يواجه الأحفاد اليوم تحديات العصر: التكنولوجيا، الاقتصاد، التعليم، والهوية.
ولن يكون الجواب إلا في قيمنا الأصيلة التي صاغتها مسيرة محمد الخامس، ورسّخها الحسن الثاني، ويواصلها محمد السادس.

ليبقى المغرب حراً، موحداً، مزدهراً… وطنًا يستمد من ذاكرته قوّة بنائه لمستقبله.

للمزيد من المقالات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *