خمسون سنة على المسيرة الخضراءالمسيرة الخضراء مسيرة الظفر مسيرة البناء

الذكرى الخمسينية للمسيرة الخضراء: من ملحمة التحرير إلى ترسيخ مشروع الحكم الذاتي

مقدمة

تُعدّ المسيرة الخضراء واحدة من أعظم المحطات في التاريخ المغربي المعاصر. فقد شكلت حدثًا استثنائيًا في العالمين العربي والإسلامي، ومثالًا فريدًا على الكفاح السلمي لاسترجاع الأرض وتحقيق الوحدة الترابية. خمسون سنة مرت على انطلاق هذه الملحمة الوطنية الخالدة، وما زال صداها يتردد في وجدان المغاربة جيلاً بعد جيل. فقد كانت رمزًا للإرادة الشعبية، والتلاحم بين العرش والشعب، والإيمان الراسخ بعدالة القضية الوطنية.
ومنذ تلك اللحظة المجيدة في السادس من نونبر 1975، انتقل المغرب من معركة التحرير إلى مسيرة البناء، مكرسًا رؤيته التنموية في الأقاليم الجنوبية. إلى أن جاء مقترح الحكم الذاتي سنة 2007، الذي فتح صفحة جديدة من الواقعية السياسية والحل الدائم. وصولًا إلى سنة 2025 التي شهدت تتويج المسار باعتراف أممي واسع بالمبادرة المغربية كحل وحيد وواقعي للنزاع المفتعل حول الصحراء المغربية.


المسيرة الخضراء: الحدث والرمز

في منتصف السبعينيات من القرن الماضي، كان المغرب يواصل استكمال وحدته الترابية بعد عقود من الاستعمار الإسباني والفرنسي. وفي خطاب تاريخي يوم 16 أكتوبر 1975، أعلن جلالة الملك الحسن الثاني طيب الله ثراه، عن تنظيم مسيرة سلمية باتجاه الأقاليم الجنوبية. وذلك بعد صدور رأي محكمة العدل الدولية الذي أكد وجود روابط البيعة والولاء بين سكان الصحراء والعرش العلوي المجيد.
استجاب الشعب المغربي لهذه الدعوة التاريخية بروح وطنية عالية. فتعبأ أكثر من 350 ألف متطوع ومتطوعة من مختلف جهات المملكة، في مشهد لا مثيل له في التاريخ الحديث. كانت المسيرة خضراء لأن رايتها الإسلام، وسلمية لأنها لم تحمل سلاحًا، ووحدوية لأنها جسدت شعار “الله، الوطن، الملك”.
وفي السادس من نونبر 1975، انطلقت جموع المتطوعين نحو الصحراء المغربية بخطى ثابتة وإيمان عميق بعدالة قضيتهم. فكانت المسيرة تعبيرًا عن وحدة الإرادة الشعبية والشرعية الملكية، وعن قدرة الأمة المغربية على الدفاع عن حقوقها المشروعة بالحكمة والسلم.


من التحرير إلى البناء

بعد استرجاع الأقاليم الجنوبية، انطلقت مرحلة جديدة من البناء والتعمير، فتم إحداث المجالس الجهوية والمحلية. كما تأسست بنيات إدارية وخدمات اجتماعية واقتصادية حديثة، كما شُرع في مشاريع بنية تحتية كبرى: الطرق، المدارس، المستشفيات، والموانئ.
حرصت الدولة المغربية على دمج الأقاليم الجنوبية في المشروع الوطني الشامل، وجعلها فضاءً للتنمية والازدهار. فقد تمّ توظيف استثمارات ضخمة لتقوية الاقتصاد المحلي وتحسين ظروف العيش، بما يعكس إيمان المغرب العميق بأن التنمية هي أقوى ردّ على دعاوى الانفصال.


مبادرة الحكم الذاتي (2007): من الرؤية إلى التوافق الدولي

مع مطلع القرن الحادي والعشرين، أدرك المغرب أن الحل الدائم للنزاع الإقليمي حول الصحراء لا يمكن أن يكون إلا في إطار واقعي وعملي يضمن كرامة السكان ويحافظ على وحدة الوطن.
وفي سنة 2007، قدّم المغرب إلى الأمم المتحدة مبادرة الحكم الذاتي للأقاليم الجنوبية، باعتبارها صيغة متقدمة تمنح سكان الصحراء صلاحيات واسعة في إدارة شؤونهم المحلية، تحت السيادة المغربية الكاملة.
تميزت المبادرة بوضوح الرؤية وبانفتاحها على الحوار والتفاوض، مما جعلها تحظى منذ البداية بدعم واسع من المجتمع الدولي، إذ وصفتها العديد من الدول الكبرى بأنها “جدية وذات مصداقية وواقعية”.

هذه المبادرة مثلت تحولًا استراتيجيًا في الدبلوماسية المغربية، إذ نقلت النقاش من الصراع المفتعل إلى منطق الحلول الواقعية. كما ساهمت في إعادة بناء الثقة مع الأمم المتحدة، وأعادت للقضية المغربية موقعها الطبيعي كقضية وحدة وطنية وليست نزاعًا استعماريا.


الاعتراف الأممي والاعتماد الرسمي (2025)

منذ سنة 2007، عمل المغرب بتبصر وثبات على تعزيز مقترحه، عبر الدبلوماسية الهادئة والفاعلة، مستندًا إلى شرعية التاريخ والميدان.
ومع مرور السنوات، أصدرت مجلس الأمن الدولي قرارات متتالية تؤكد على أولوية المبادرة المغربية كأساس واقعي وجاد لحل النزاع، داعيًا الأطراف إلى الانخراط في مفاوضات جادة بروح الواقعية والتوافق.
توالت اعترافات الدول الداعمة للمغرب، حيث فتحت أكثر من 30 دولة قنصليات عامة في مدينتي العيون والداخلة، في إشارة واضحة إلى سيادة المغرب الفعلية على أقاليمه الجنوبية. كما عبرت قوى دولية كبرى مثل الولايات المتحدة الأمريكية، إسبانيا، ألمانيا، فرنسا عن دعمها الصريح للمبادرة المغربية.

وفي سنة 2025، جاءت اللحظة التاريخية المنتظرة: أعلنت الأمم المتحدة ضمن تقريرها السنوي ومداولات مجلس الأمن عن اعتماد مبادرة الحكم الذاتي المغربية كأساس للحل النهائي للنزاع، معتبرة إياها منسجمة مع ميثاق المنظمة ومبادئ تقرير المصير في إطار السيادة الوطنية.
هذا الاعتماد الأممي لم يكن وليد اللحظة، بل ثمرة خمسين سنة من التضحيات والمواقف الصلبة، وخمس عشرة سنة من العمل المتواصل لترسيخ المصداقية المغربية على المستويين الإقليمي والدولي.


الخطاب الملكي في ذكرى المسيرة الخضراء 2025

في خطابه الموجه إلى الأمة يوم 6 نونبر 2025 بمناسبة الذكرى الخمسين للمسيرة الخضراء، أكد جلالة الملك محمد السادس أن “المسيرة لم تنتهِ، بل تتجدد روحها في كل ورش تنموي، وفي كل مشروع يعزز مكانة أقاليمنا الجنوبية كقاطرة للتنمية الإفريقية والمحيط الأطلسي”.
واعتبر جلالته أن اعتماد الأمم المتحدة لمبادرة الحكم الذاتي يشكل انتصارًا للدبلوماسية المغربية الهادئة، ودليلًا على عدالة القضية الوطنية. كما دعا إلى جعل هذه المرحلة الجديدة انطلاقة لعهد اقتصادي واستثماري جديد بالأقاليم الجنوبية، يربط المغرب بعمقه الإفريقي في إطار مشروع “الطريق الأطلسي الإفريقي” وميناء الداخلة الأطلسي الكبير.
الخطاب الملكي شكّل إعلانًا عن الانتقال من مرحلة الدفاع إلى مرحلة البناء والتثبيت، ومن الترافع السياسي إلى التنمية الميدانية.


المنجزات الكبرى بالأقاليم الجنوبية (2007–2025)

تُعتبر السنوات الثمانية عشر الأخيرة نموذجًا فريدًا في مسار التنمية بالمغرب. فبفضل النموذج التنموي الجديد للأقاليم الجنوبية (2015–2030)، تمّ تنفيذ مشاريع استراتيجية ضخمة غيّرت وجه المنطقة بشكل جذري:

  1. البنية التحتية:
    • إنجاز الطريق السريع تزنيت–الداخلة على مسافة 1055 كلم، الذي ربط الجنوب بالشمال في زمن قياسي.
    • مشروع ميناء الداخلة الأطلسي الذي يعدّ من أكبر الموانئ بإفريقيا، ويشكل بوابة المغرب نحو القارة.
    • تعزيز شبكات الكهرباء والماء والاتصالات، وتوسيع المطارات ومناطق العبور.
  2. الطاقات المتجددة:
    • إقامة مشاريع طاقة شمسية وريحية ضخمة في العيون وبوجدور، لتجعل من الصحراء المغربية مركزًا للطاقة النظيفة.
  3. الاستثمار والتنمية الاقتصادية:
    • خلق مناطق صناعية وسياحية جديدة، وتشجيع الاستثمار المحلي والدولي، خصوصًا في مجالات الصيد البحري والطاقات والخدمات اللوجستية.
    • ارتفاع مؤشرات التشغيل والدخل الفردي، وتحسن مستوى الخدمات الاجتماعية والتعليمية.
  4. البعد الإفريقي والانفتاح الدولي:
    • الأقاليم الجنوبية أصبحت اليوم منصة للتعاون المغربي الإفريقي، ومركزًا لاحتضان منتديات اقتصادية دولية.
    • فتح القنصليات الأجنبية أعطى المنطقة إشعاعًا دبلوماسيًا واقتصاديًا غير مسبوق.
  5. البعد الثقافي والإنساني:
    • الحفاظ على الموروث الحساني باعتباره مكونًا أصيلًا للهوية المغربية، وإدماجه في البرامج الثقافية والتعليمية.
    • دعم المشاركة السياسية للساكنة المحلية، وتوسيع صلاحيات المجالس المنتخبة في إطار الجهوية المتقدمة.

المسيرة الخضراء: مشروع مستمر

خمسون سنة بعد الانطلاق، ما تزال المسيرة الخضراء تمثل مدرسة في الوطنية والإيمان بالمستقبل. إنها ليست ذكرى احتفالية فقط، بل منهج حياة في الدفاع عن الوطن وبنائه، تجسده المشاريع الكبرى، والنهضة التنموية، والانفتاح الإفريقي الذي يقوده المغرب اليوم.
لقد أثبت التاريخ أن الوحدة الترابية ليست فقط قضية حدود، بل قضية هوية وانتماء، وأن المغرب بتاريخه العريق وملكه الحكيم وشعبه المتماسك، يسير بخطى ثابتة نحو ترسيخ مكانته كقوة إقليمية فاعلة في محيطها الإفريقي والعربي.


خاتمة

الذكرى الخمسينية للمسيرة الخضراء ليست مجرد محطة للتأمل، بل فرصة لتجديد العهد على مواصلة المسيرة تحت القيادة الرشيدة لصاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله.
لقد انتقلت المسيرة من تحرير الأرض إلى تحرير الإرادة، ومن الدفاع عن السيادة إلى صناعة التنمية، ومن مواجهة التحديات إلى تصدير نموذج في الحكمة والوحدة.
إن اعتماد الأمم المتحدة لمقترح الحكم الذاتي سنة 2025 يمثل تتويجًا لمسار طويل من النضال الدبلوماسي والسياسي والإنساني. كما يعد رسالة واضحة إلى العالم بأن المغرب في صحرائه، والصحراء في مغربها، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
هكذا تستمر المسيرة… خضراء بالسلام، متجددة بالعطاء، ومضيئة بالأمل في مغرب موحد مزدهر يسوده الأمن والاستقرار.

المزيد من المقالات:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *