المحتويات

مقدمة
شهد العالم التربوي خلال العقدين الأخيرين تحوّلًا كبيرًا نحو تبنّي المقاربات التي تعتمد على الأدلة العلمية (Evidence-Based Practices)، ومن بين أبرز هذه المقاربات نجد التعليم الصريح (Explicit Instruction) الذي أثبت فعاليته في تحسين التعلمات، خصوصًا لدى المتعثرين.
وفي سياق الإصلاحات الكبرى التي يعرفها النظام التربوي المغربي، وظهور نموذج المدرسة الرائدة، أصبح التعليم الصريح أكثر من مجرد خيار بيداغوجي؛ بل ركيزة أساسية لرفع جودة التعليم ودعم التعلمات الأساسية في مختلف المستويات.
التعليم الصريح ليس تلقينًا كما قد يبدو للبعض، بل هو طريقة تدريس منهجية، منظمة، متدرجة، وواضحة، تتيح للمتعلم بناء الفهم خطوة بخطوة، من خلال التوجيه الدقيق والممارسة المراقَبة ثم الاستقلالية.
أولًا: مفهوم التعليم الصريح وتعريفه
يشير التعليم الصريح إلى نمط تعليمي يعتمد على التوضيح المباشر للمهارات والمعارف المراد تعلمها، عبر مراحل واضحة ومنتظمة، حيث يقود المدرّس المتعلمين تدريجيًا من الفهم النظري إلى التطبيق العملي.
ووفق تعريف Hollingsworth & Ybarra فهو:
“تدريس يقوم على تقديم واضح للمعلومة، متبوعًا بالنمذجة، ثم ممارسة موجهة، قبل أن يُسمح للمتعلمين بالممارسة المستقلة.”
الفرق بين التعليم الصريح والتلقين
| التلقين | التعليم الصريح |
|---|---|
| نقل المعرفة بشكل مباشر دون توجيه التفكير | تعليم منظم يوضح الفهم ويقود التفكير |
| اعتماد المدرّس بشكل كامل | إشراك المتعلم خطوة بخطوة |
| حفظ ميكانيكي | بناء الفهم ثم المهارة ثم الاستقلالية |
| غياب مرحلة النمذجة | النمذجة شرط أساسي |
إذن فالتعليم الصريح يقوم على بناء تدريجي للمهارات وليس على الحفظ السلبي.
ثانيًا: مكونات التعليم الصريح

ينظم التعليم الصريح العملية التعليمية في أربعة مكونات أساسية:
1. التهيئة (Activation & Focus)
في هذه المرحلة يُعرّف المدرس المتعلمين بهدف الدرس، ويذكّرهم بالمعارف السابقة المرتبطة به، ويحفّز انتباههم.
مثال:
“سنتعلم اليوم طريقة استخراج فكرة رئيسية من نص وصفي… سنحتاج ما تعلمناه سابقًا حول أنواع الجمل الدالة على الوصف.”
2. النمذجة (Modeling)
يُظهر المدرس للمتعلمين كيفية إنجاز المهارة، خطوة بخطوة، مع التفكير بصوت عالٍ.
مثال:
“سأقرأ الجملة الأولى… ماذا ألاحظ؟ هناك كلمة تشير إلى المكان… إذن هذه فكرة جزئية.”
هذه المرحلة تعدّ قلب التعليم الصريح.
3. التدريب الموجّه (Guided Practice)
يتدرّب المتعلمون مع توجيه مباشر من المدرّس، بشكل فردي أو جماعي.
أثناء التدريب يقدم المدرس:
- تغذية راجعة فورية
- تصحيحًا في اللحظة
- دعمًا للمتعثرين
4. التدريب المستقل (Independent Practice)
في هذه الخطوة يعمل المتعلم وحده، دون دعم مباشر، لتثبيت المهارة.
وهي التي تظهر مدى اكتساب الكفاية فعلًا.
ثالثًا: مزايا التعليم الصريح ودلالاته البحثية

تؤكد الأبحاث العالمية (Hattie, Rosenshine, Archer & Hughes…) أن استخدام التعليم الصريح يحقق نتائج ملموسة في التعلمات. وقد بيّنت الدراسات أن:
- نسبة الفهم ترتفع بأكثر من 25% لدى المتعثرين عند استعمال النمذجة.
- أخطاء التعلّم تقل بشكل كبير في المواد ذات الطابع الإجرائي مثل الرياضيات واللغات.
- الاحتفاظ بالمعلومة (Retention) يتحسن بفعل التدريب المتكرر.
- الذاكرة العاملة تصبح أكثر قدرة على معالجة المهارات المركبة.
أهم مزايا التعليم الصريح:
- يدعم المتعلمين الذين يعانون من صعوبات.
- يساعد على تعلّم المهارات المعقدة تدريجيًا.
- يقلل من التشتت داخل القسم.
- يبني عادات تعلم مستقلة ومنظمة.
- يخلق وضوحًا معرفيًا وعمليًا لدى المتعلم.
رابعًا: كيفية تطبيق التعليم الصريح داخل الفصل
1. تحديد أهداف تعلم دقيقة وقابلة للملاحظة
مثل:
“أن يستخرج المتعلم فكرتين مركزيتين من نص سردي من 90 كلمة.”
2. تفكيك المهارة إلى خطوات
بدلًا من تقديم المهارة كاملة، تُجزَّأ إلى مراحل صغيرة.
3. النمذجة أمام المتعلمين
وهي أهم خطوة.
ينبغي أن تُمارس بوضوح وبصوت مسموع، مع شرح التفكير الداخلي.
4. طرح أسئلة تحقق الفهم
مثل:
- ماذا لاحظتم؟
- ما الخطوة التالية؟
- لماذا اخترنا هذه الإجابة؟
5. استخدام أمثلة متنوعة
تمارين شفهية، كتابية، مصاحبة بصور…
6. الانتقال التدريجي نحو الاستقلالية
عدم ترك المتعلم وحده قبل التأكد من فهمه خلال التدريب الموجَّه.
7. تقديم تغذية راجعة دقيقة دون تأخير
لأنّ تأخر التغذية يضعف أثرها.
خامسًا: التعليم الصريح ضمن ممارسات الإصلاح التربوي
يعتمد التعليم الصريح على مبادئ الانضباط المنهجي، التنظيم، ودعم المتعلم، وهي خصائص تتوافق مع:
1. البيداغوجيا الفارقية
لأنه يسمح بتمييز وتوجيه الدعم حسب حاجات المتعلم.
2. التعلم المبني على الأدلة
فالتعليم الصريح من أكثر الممارسات التي تمت دراستها وتوثيق نتائجها.
3. التعلم النشط
لأنه يعتمد على بناء الفهم من خلال أسئلة وتدريبات وممارسات مستمرة.
سادسًا: التعليم الصريح والمدرسة الرائدة في المغرب
تقوم المدرسة الرائدة على تحسين التعلمات الأساسية عبر:
- تقليص الفوارق بين المتعلمين
- اعتماد بيداغوجيا ناجعة
- أجرأة تعليم منظم وفعال
- رفع نِسَب القراءة والحساب في السنوات الثلاث الأولى
- اعتماد دلائل بيداغوجية دقيقة
- توحيد الممارسات الصفية ذات النجاعة العالية
وفي هذا السياق يتبوأ التعليم الصريح مكانة مركزية، لأنه:
1. يدعم مشروع الاسترجاع التعلمي (Learning Recovery)
خاصة بعد جائحة كورونا وما نتج عنها من فجوات معرفية.
2. ينسجم مع طريقة العمل الجديدة للمدرسين
حيث يشدد نموذج المدرسة الرائدة على:
- التخطيط القصير والدقيق
- وضوح أهداف التعلم
- اعتماد أنشطة مركزة
- تقديم الدعم الفوري
3. يخدم البرامج القرائية والرياضية الجديدة
إذ يعتمد كثير من دلائل القراءة والحساب على النمذجة والتدريب الموجَّه.
4. يسهم في تحسين التعلمات الأساسية
وهو الهدف الأول للمدرسة الرائدة، حيث يرفع:
- فهم النصوص
- سرعة القراءة
- القدرة على الإنجاز الرياضي
- تنظيم التعلم الذاتي
5. يوفر التعليم الصريح بيئة تعليمية تضمن الإنصاف
يسمح بوصول جميع المتعلمين—خصوصًا المتعثرين—إلى الحد الأدنى من الكفايات عبر الدعم المنظم.
خاتمة
إنّ اعتماد التعليم الصريح داخل الأقسام المغربية ليس مجرد تقنية جديدة، بل هو انتقال نحو تعليم قائم على الأدلة، وعلى وضوح الأهداف، وعلى تنظيم خطوات التعلّم، وعلى بناء الكفايات بشكل تدريجي ومنهجي.
وتُظهر التجارب في المدرسة الرائدة أن هذا النموذج يحقق تحسنًا واضحًا في التعلمات الأساسية، ويسهم في تقليص الفوارق بين المتعلمين، ويمنح المدرِّس أدوات دقيقة لتدبير التعلم بفعالية.
إن مستقبل الجودة التعليمية في المغرب يعتمد بدرجة كبيرة على تبنّي مثل هذه الممارسات التي أثبتت جدواها عالميًّا، وتكييفها مع السياق المغربي، خدمة لجيل قادر على التعلم بوعي، وفهم، واستقلالية.